كيف صار “الأحمر” لوناً محظوراً؟
تعود أولى ارتباطاتي بالألوان إلى حادثة قديمة جرت خلال المرحلة الإعدادية، وشكلت لدي نوعاً لم أكن قد اختبرته بعد من الخوف.
حدث ذلك عندما تغيبت إحدى صديقاتي عن المدرسة لثلاثة أيام متتالية دون معرفة الأسباب، وفي اليوم الرابع حضرت إلى المدرسة واطلعتنا على السر، وكشفت لنا حينها، لأربع أو خمس فتيات، في دورة المياه المخصصة للإناث، عن حروق غريبة الشكل منتشرة في مناطق مختلفة من جسدها.
أخبرتنا “س” أن والدها من فعل ذلك باستخدام سكين مطبخ حميت فوق النار، لتتركنا مذهولات خائفات عقب سماع حكاية لم نكن نعتقد بوجودها في العالم الذي نعيشه خارج التلفاز والروايات.
أما السبب فكان، بحسب قولها، أنها خالفت أوامره وارتدت بلوزة “حمراء”، لم نفهم، سألناها “وما المشكلة؟”، أجابت “إنه اللون الذي يثير الرجال وارتدائه “عيب وحرام” برأي أبي”.
لم تنته القصة المأساة الفاجعة أيا كان اسمها أو وصفها، عند هذا الحد، في اليوم السابع غابت صديقتنا، اللون الأحمر مرة أخرى يلون القصة، ولكن ليس بكنزة حمراء، بل بدم “س” التي قيل لنا أنها ماتت، وسربت إحدى قريباتها أنها انتحرت، لماذا تقتل بنت في الرابعة عشر من عمرها نفسها؟، يبدو سؤالاً كبيراً جدا لعقل لم يفهم بالأساس كيف لبلوزة حمراء أن تكون إثما.
حين استحضر الحادثة أفكر، هكذا إذاً صار اللون الأحمر يندرج ضمن لائحة طويلة من المحظورات التي عاشتها فتاة لم تبلغ حينها الرابعة عشر، الحادثة التي لاحقتني وصديقاتي لمدة طويلة من الزمن، وأصبح الأحمر هو اللون الذي قد يثير الشبهات حولنا أو يعرضنا للمخاطر، وراحت أعيننا تتحاشى زينة الميلاد، وإشارات المرور، وحتى حبات الطماطم.
تقفز هذه الذكرى إلى رأسي أينما وُجِد حديث عن الألوان، وإن كنت تخلصت من “الخوف” الذي تركته بي حينها، إلا أن الذاكرة تظل تكرر الأشياء العصية عن الفهم أو تلك التي لم تشبعك بإجابات كافية حين تجد ما يثيرها مجدداً في المستقبل، ناهيك عن أن الصدمات بشتى أنواعها تبقى عالقة على جدار الذاكرة مهما تراكم فوقها غبار الزمن.
وأنا أرى اليوم الشعار المرفوع “orange the world”، لم يكن غريباً أن يذكرني اللون البرتقالي الذي يتلون العالم به اليوم من أجل مستقبل أفضل للمرأة، باللون الأحمر الذي أثار غضب رجل في الماضي وكان سبباً في تعنيف طفلة، من المؤسف كيف يتحول اللون إلى “عقدة”.
وبالحديث عن الألوان، وعن العنف الممارس ضد المرأة أينما كان وكيفما كانت أشكاله، لابد لي أن أعود لإحدى أهم الروايات التي طرحت حول هذا الموضوع وحصدت جائزة بوليتزر لعام ١٩٨٣، بعنوان “اللون الأرجواني” للكاتبة ألس والكر.
تحكي والكر عن الاضهاد الذي تتعرض له النساء في مجتمع ذكوري يعنف ويغتصب ويتخذ من النساء خادمات، وركزت من خلال شخصياتها النسائية على طرح مشاكلهن وسلبياتهن وأيضاً إيجابياتهن ومن ثم الحل للمشكلة المتمثلة بالخضوع للجنس الآخر والامتثال لأوامره.
ولعل أفضل ما يمكنني اقتباسه من الرواية المذكورة هو مقطع من حوار بين امرأتين تقول فيه إحداهن للأخرى “إني أغار منك ولهذا فعلت بك ما فعلت، أنت تقومين بما أعجز أنا عن فعله”، ثم تسألها الأخرى “وما هو” تجيبها “المجابهة”.
وبهذا كانت الأولى التي لم تعرف كيف تجابه، عرضة لشتى أنواع التعنيف من قبل ذكور وجدوا حولها، في حين لم يجرؤ أحد على التفوه بكلمة واحدة أمام الأخرى، وعلى الرغم من أن ذلك يبدو مستحيل التطبيق في مجتمع ينمو فيه الخوف قبل أي شعور آخر، إلا أن المجابهة هي أول ما يجب فعله لسلوك طريق نحو “البرتقالي المشرق” حيث لا يكون الأحمر لوناً محظوراً.
هند الشيخ علي – صحفية سورية